دمعة على حب النبي(2)
فضيلة الشيخ / عبد الله بن صالح الخضيري
حب الله ليس كلمات تقال، ولا قصصاً تروى، وكذا محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كما أنه « لا يكون دعوة باللسان، ولا هياماً بالواجدان وكفى، بل لابد أن يصاحب ذلك: الاتباع لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والسير على هداه
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]الأسباب الجالبة لمحبة النبي -صلى الله عليه وسلم-:
1- محبة الله –تعالى- والأنس بذكره وحمده وشكره على النعم الظاهرة والباطنة والله تعالى له الثناء والحمد الأتمان الأكملان، وقد يعترف المرء بالعجز عن الشكر، وكما قيل: العجز عن الشكرِ شكر، وهذا في غاية العبادة والذل مع المنعم سبحانه، والله تعالى قال في كتابه: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ﴿152﴾﴾ [البقرة: 152] وقد هدانا الله -عز وجل- وجعلنا من خير أمة أخرجت للناس، وهدانا لما اختلف فيه أهل الكتاب، وهدانا لهذا الرسول الأكرم -صلى الله عليه وسلم-، وهو النعمة العظمى والفخر الأسمى: ﴿ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ﴾ [النحل: 53]، وقد جمع الله هذه النعم فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ﴿41﴾ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴿42﴾ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴿43﴾ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا ﴿44﴾ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ﴿45﴾ وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا ﴿46﴾ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيرًا ﴿47﴾﴾ [الأحزاب: 41- 47]، والذكر هو أفضل الأسباب الجالبة لمحبة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
كما ينبغي للعبد كثرة سؤال الله –تعالى- الصدق في المحبة ، والدوام والثبات على المتابعة للرسول -صلى الله عليه وسلم-:
أحن بأطراف النهار صبابة وفي الليل يدعوني الهوى فأجيب
وأيامنا تفنى وشوقي زائـد كان زمان الشـوق ليس بغيـب
وعلى الإنسان أن يأنس بخلوته ليتفرغ فيها للعبادة ففيها لذة السعادة التي لا تدرك إلا بالخلوات، ولذا قال الإمام أحمد -رحمه الله-: « رأيت الخلوة أروح لقلبي » [1]، وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: « إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة »، وقال في موضع آخر: « ما يصنع أعدائي بي أنا جنتي في صدري، أنَّى رحت فهي معي، أنا سجني خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة » [2]. قال ابن القيم: حدثني بعض أقارب شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- قال: كان في بداية أمره يخرج أحيانًا إلى الصحراء، يخلو عن الناس، لقوة ما يرد عليه، فتبعتُه يوماً فلمَّا أصحر تنفس الصعداء، ثم جعل يتمثل بقول الشاعر:
وأَخرُجُ من بين البيوت لعلَّني أُحدث عنكَ النفسَ بالسر خاليا [3]
كما أن من علامة محبة الله: ألا تفتقر إلى غيره، ولا تسأل أحداً سواه، كما يقول ذو النون المصري: « قل لمن أظهر حب الله: احذر أن تذل لغير الله، ومن علامة الحب لله ألا يكون له حاجة إلى غير الله » [4]، وقد أثنى الله على عباد له فقال: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ ﴾ [البقرة: 165].
نهاري نهار الناس حتى إذا بدا لي الليلُ هَزتني إليك المضاجعُ
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى ويجمعني والشوق بالليل جامعُ
ومن دلائلها: قراءة كلام الله –تعالى- وتأمله وتدبره، والخشوع عند آياته، والوقوف عند حدوده، وإقامة حروفه، والفراغ إلى النوافل بعد إقامة الفرائض كما قال تعالى في الحديث القدسي: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددتُ عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن؛ يكره الموت وأكره مساءته) [5].
وحب الله ليس كلمات تقال، ولا قصصاً تروى، وكذا محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كما أنه « لا يكون دعوة باللسان، ولا هياماً بالواجدان وكفى، بل لابد أن يصاحب ذلك: الاتباع لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والسير على هداه، وتحقيق منهجه في الحياة؛ فالمحبة ليست ترانيم « تغني، ولا قصائد تنشد »، ولا كلمات تقال، ولكنها طاعة لله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وعمل بمنهج الله الذي يحمله الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وأول ما يطالب به المؤمن أن يكون ولاؤه لله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، ومحبته لرسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ بحيث تتجلى هذه المحبة في سلوكه وانطلاقاته، والآيات كثيرة تشير إلى هذه المفاهيم، قال تعالى: ﴿ قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿31﴾ قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴿32﴾﴾ [آل عمران: 31، 32] [6].
2- تقديم محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأقواله وأوامره على من سواه، وتعظيم ذلك، بدءًا من المحبة القلبية وتمني رؤيته وصحبته، وانتهاءً بالعمل بشريعته ظاهراً وباطناً، عن محبة وشوق، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده، والناس أجمعين) [7]، ويتجلى هذا الحب إذا تعارض مع أحد هذه المحبوبات ما أحبه الله ورسوله ورضيه الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.
وكذا أخرج البخاري عن عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك)، فقال له عمر: فإنه الآن والله! لأنت أحب إلي من نفسي. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الآن يا عمر) [8].
ويبلغ التشريف لمن قصد المحبة مبلغه في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مِنْ أشد أمتي لي حباً ناس يكونون بعدي، يود أحدهم لو رآني بأهله وماله) [9].
ومما يجلب حنان القلب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وتعظيمه تذكُّر ما يأتي:
أ- تذكُّر أحوال الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حرصه على أمته، ورأفته ورحمته بهم، وما لاقاه الرسول -صلى الله عليه وسلم- من الأذى والكيد من المشركين في مكة والطائف، ومن اليهود والمنافقين في المدينة. وسأذكر طائفة من المواقف والنصوص، لعل فيها رقة تنبئ عن عظيم وعظمة في الظاهر والباطن. قال تعالى: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنَفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتِّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴿128﴾﴾ [التوبة: 128]، وقوله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107].
عن عائشة -رضي الله عنها- زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- : أنها قالت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: ( لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا بـ « قرن الثعالب » فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلنني، فنظرت إذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إن الله -عز وجل- قد سمع قول قومك لك وما ردُّوا عليك، وقد بعث إليك مَلَك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. قال: فناداني مَلَك الجبال، وسلَّم عليَّ، ثم قال: يا محمد ، إن الله قد سمع قول قومك لك ، وما مَلَك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئً) [10].
قال ربيعة بن عباد الدؤلي -وهو شاهد عيان-: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذي المجاز يتبع الناس في منازلهم يدعوهم إلى الله -عز وجل- ، ووراء رجل أحول تقد وجنتاه وهو يقول: أيها الناس، لا يغرنكم هذا من دينكم ودين آبائكم. قلت: من هو؟ قالوا: أبو لهب!! [11].
عن سلمان -رضي الله عنه- قال: قيل له: قد علَّمكم نبيكم -صلى الله عليه وسلم- كل شيء حتى الخراءة، قال: أجل! نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، وأن نستنجي باليمين، وأن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار،أو أن نستنجي برجيع أو عظم [12].
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر عن الأسرى والقتلى: (لو كان المطعم بن عدي حياً ثم سألني في هؤلاء النتنى لوهبتهم له) [13]، لأنه كان أجار النبي -صلى الله عليه وسلم- لما رجع من الطائف، وهو الذي أمر بتمزيق الصحيفة التي حاصرت بني هاشم [14].
وقد ألبس النبي -صلى الله عليه وسلم- ثوبه عبد الله بن أُبيّ بن سلول، وكفَّنه فيه حين مات؛ لأنه قد كسى العباس بن عبد المطلب يوم بدر وهو أسير عريان؛ فجازاه النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك مع أن ابن أُبيّ كان وكان.. [15].
يقال عنه « ساحر، شاعر، مجنون، صابئ، يضرب على عقبه، يخنق بسلا الجزور، تكسر رباعيته، يدمى وجهه، يتهم في بيته، يتهم في عدله وقسمه... ومع ذلك يقول: ( يرحم الله أخي موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر) [16].
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- يستسقي فما ينزل حتى يجيش كل ميزاب:
وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل [17]
ب- تذكُّر الأجر والأثر العاجل في الدنيا والآخرة الوارد في محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- والصلاة عليه، ومن ذلك:
وجود الحياة الطيبة بلذة الإيمان وغاية السعادة، ففي حديث أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُلقى في النار) [18].
أن تمام الإيمان لا يكون إلا بمحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- وتعظيمه وتوقيره، كما في الحديث: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) [19].
وأما أصل المحبة الذي يعني الطاعة والانقياد والتسليم فلا شك في فرضيته: ﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴿65﴾﴾ [النساء: 65]، ولذا فلا يسع أحداً الخروج عن طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- والعدول عما أمر به، بل يجب الامتثال للأمر والنهي وتقديمهما على حظوظ النفس ودوافع الهوى [20].
أن في محبته -صلى الله عليه وسلم- والصلاة عليه وهو من ذكر الله تفريجًا للهموم، وصلاحًا للبال، وغفرانًا للذنوب، وتكفيرًا للسيئات، قال الله –تعالى-: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ﴿2﴾﴾ [محمد: 2].
وعن أُبي بن كعب -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال: (يا أيها الناس، اذكروا الله، جاءت الراجعفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه، قال أُبي: فقلت: يا رسول الله، إني أكثر من الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال: ما شئت، قلت: الربع؟ قال: ما شئت، فإن زدت فهو خير لك، قلت: فالنصف؟ قال: ما شئت ، فإن زدت فهو خير ، قلت: فالثلثين؟ ، قال: ما شئت ، فإن زدت فهو خير ، قلت: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: إذن تكفى همك ويغفر لك ذنبك) [21].
أن من أحبه كان أولى الناس به، كما قال لمن أحبه وأعدَّ هذا الحب ليوم القيامة: (أنت مع من أحببت) [22].
إذا نحن أدلجنا وأنت أمامنا كفى بالمطايا طِيب ذكراك حادياً
ج- تذكُّر سِماة الإسلام به وبشريعته، كما قال تعالى: ﴿ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾ [الأعراف: 157]، وكما قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴿107﴾﴾ [الأنبياء: 107]. وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (إنما أنا رحمة مهداة) [23]، قوله -صلى الله عليه وسلم- لأبي موسى الأشعري ومعاذ بن جبل -رضي الله عنهما- حينما بعثهما لليمن: (يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلف) [24].
د- محبة ما أحبه -صلى الله عليه وسلم- وبُغض ما أبغضه -صلى الله عليه وسلم- في المعاملات والآداب، بل لا يستقيم حب صحيح إلا بتتبع ما أحبه المحبوب والبعد عما أبغضه ، كما قال القائل:
أريد وصاله ويريد هَجْري فأترك ما أريد لما يريد
وقول الآخر:
ولو قلت لي : متْ متُّ سمعاً وطاعة وقلت لداعي الموت أهلاً ومرحباً
وقد روي بهذا المعنى حديث: ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) [25].
إن هـواك الـذي بقلبـي صيرني سامعاً مطيعا
أخذت قلبي وغمضَ عيني سلبتني النومَ والهجوعا
فذر فؤادي وخُذْ رَقـادي فقال: لا بال هما جميعاً
فقال: اسكتوا لئلا تسمعها النفوس فتدعيها [26].
رضوا بالأماني وابتلوا بحظوظهـم وخاضوا بحار الحب دعوى وما ابتلوا
فهم في السرى لم يبرحوا من مكانهم وما ظعنـوا في السير عنه وقد كلـوا
ومنه ينبغي للمرء الحرص على تصحيح الأعمال والنيات لله تعالى؛ حتى يستكمل حقيقة الإيمان، وفي هذا المعنى أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (من أحب لله وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان) [27].
ألا يا محب المصطفى زد صبابة وصمِّخ لسان الذكر منك بطيبهِ
ولا تعبـأن بالمبطليـن فإنمـا علامةُ حـبِّ الله حـبُّ حبيبـهِ
3- تولي الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وذكر محاسنهم وفضائلهم والكف عما شجر بينهم، وإنما نحب نحن من أحب الله ورسوله، كما أن حبهم وموالاتهم تقرب إلى حب الله وحب رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وتجلب الحب لهما، كما أننا نُحِبُ بحُبِ النبي -صلى الله عليه وسلم-، ونبغض ببغضه، وهذا من الآثار اللازمة لمن كان محباً للنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ ولذا لمَّا سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- صوتاً لقريب ممن يحبه اهتز لذلك سروراً، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فعرف استئذان خديجة، فارتاع لذلك، فقال: اللهم هالة بنت خويلد، فغرتُ)... الحديث [28].
وكان إذا ذبح شاة قال: (أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة) [29] قال ابن حجر: « وفي الحديث : أن من أحبَّ شيئًا أحبَّ محبوباته، وما يشبهه، وما يتعلق به » [30].
تمر الصبا صفحاً بسكان ذي الغضا ويصدع قلبي أن يلهب هبوبُها
قريبة عهـد بالحبيب وإنما هـوى كل نفس حيث حـل حبيبهـا
ولست في مقام النائب عن العقل حتى نستدرك هذا الحب، وإنما هو واقع ما أجمله:
أحب بني العوام طراً لحيها ومن أجلها أحببت أخوالها كلباً
وينبغي على العاقل أن يتأمل حقيقة الحب وأثره ومعناه:
فيا ساكني أكناف طيبة كلكم إلى القلب من أجل الحبيب حبيب
وقد خشي -صلى الله عليه وسلم- ممن يلمز أصحابه أو يلومهم، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (لا تسبوا أحداً من أصحابي؛ فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبًا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه) [31]، هذا في عموم الصحابة، وأما في الأنصار، فعن أنس -رضي الله عنه- قال: مر أبو بكر والعباس -رضي الله عنهما- بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون، فقال: ما يبكيكم؟ قالوا: ذكرنا مجلس النبي -صلى الله عليه وسلم- منا، فدخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبره بذلك، قال: فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد عصب على راسه حاشية بُرد، قال: فصعد المنبر ولم يصعده بعد ذلك اليوم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (أوصيكم بالأنصار؛ فإنهم كرشي وعيبتي [32]، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذيلهم، فأقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم) [33]. وفي رواية عند البخاري: (وإن الناس سيكثرون ويقلون) [34]، قال ابن حجر في الفتح: « أي أن الأنصار يقلون: وفيه إشارة إلى دلفظ سيء قبائل العرب والعجم في الإسلام وهم أضعاف قبيلة الأنصار، فمهما فرض في الأنصار من الكثرة كالتناسل، فرض في كل طائفة من أولئك، فهم أبداً بالنسبة إلى غيرهم قليل، ويحتمل أن يكون -صلى الله عليه وسلم- اطلع على أنهم يقلون مطلقاً، فأخبر بذلك، فكان كما أخبر، لأن الموجودين الآن من ذرية علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ممن يتحقق نسبه إليه أضعاف من يوجد من قبيلتي الأوس والخزرج، ممن يتحقق نسبه، وقس على ذلك، ولا التفات إلى كثرة من يدعي أنه منهم بغير برهان » [35].
بل تبلغ الدعوة إلى حب الأنصار أن جعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حبهم آية على الإيمان، وبغضهم آية على النفاق، فقال فيهم: (لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يُبغضهم إلا منافق، من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله) [36].
وفي المهاجرين يقول تعالى: في أصدق وصف وأدق تعبير: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴿8﴾﴾ [الحشر: 8].
ويجمعهم النص القرآني في موضع آخر: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿100﴾﴾ [التوبة: 100].
ومما يدعوا إلى توليهم ويزيد من محبتهم تذُّكر ما يلي:
· محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم وثناؤه عليهم إِنْ في المجموع وإِنْ في الأفراد.
· شرفهم بشرف رؤيتهم ومصاحبتهم لأشرف وأفضل الخلق، اختارهم الله لصحبة نبيه -صلى الله عليه وسلم- وأثنى عليهم في القرآن، فهم أفضل الناس، وهم خير القرون بنص الحبيب -صلى الله عليه وسلم- [37].
· سابقتهم في الإسلام ، وتحملهم الأذى، وصبرهم حتى فرج الله لهم.
· ما قدموا لله وللدين وللنبي -صلى الله عليه وسلم- من النفس والمال والولد، وشدهم من عزم الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتثبيته.
· نصر بعضهم لبعض وكونهم كالجسد الواحد ﴿ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾ [الفتح: 29].
· حرصهم على نشر الدين وتبليغ سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وتعليم الناس القرآن، وانتشارهم لأجل ذلك في الآفاق.
· كما أنهم أعلم الخلق بدين الله بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- وما أجمعوا عليه لا يسع أحداً خلافه.
أين الذين بنار حبك أرسلوا الأنوار بين محافل العشاق
سكبوا الليالي في أنين دموعهم وتوضئوا بمدامع الأشواق
* * *
كيف انطوت أيامُهم وهم الأُلى الأنوار بين محافل العشاق
هجروا الديار فأين أزمع ركبهم من يهتدي للقوم أو مَن يقتدي
يا قلب حسبك لن تلم بطيفهم إلا على مصباح وجه محمدِ
* * *
قوم إذا هيجوا كانوا ضراغمة وإن هم قسوا أرضوك بالقسم
كأنما الشرع جزء من نفوسهم فإن هم وعدوا استغنوا عن القسم
4- إجلال أهل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وآله إجلالاً يليق بهم، وإكرام الصالحين منهم وموالاتهم، ومعرفة أقدارهم وهذا مطلب شرعي قبل أن يكون مقرباً لحب النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما قال تعالى: ﴿ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ﴾ [الشورى: 23] [38]. وروى مسلم في صحيحه قوله -صلى الله عليه وسلم-: (أما بعد، ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به)، فحث على كتاب الله ورغَّب فيه ثم قال: (وأهل بيتي، أذكركم الله أهل بيتي، أذكركم الله أهل بيتي، أذكركم الله أهل بيتي) [39].
وروى البخاري عن ابن عمر عن أبي بكر -رضي الله عنهم- قال: (ارقبوا محمداً -صلى الله عليه وسلم- في أهل بيته) [40].
كما ينبغي مراعاة ما يلي:
· بقاء شرف النسب لهم وتميزهم عن غيرهم لأجل ذلك:
· أنهم كغيرهم فيهم الصالح وفيهم غير ذلك، وأنهم داخلون في قوله -صلى الله عليه وسلم-: (ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه) [41]· الدعاء لهم في الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: وآله.
· تولي الصالحين منهم ومجالستهم والأخذ عنهم والبر بهم وتطيب خواطرهم؛ فإنهم من آثار النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومحاولة القرب منهم، ومصاهرتهم تزوجاً أو تزويجاً.
· مناصرتهم والبذل لهم، والذبُّ عنهم، وذكر مناقبهم ومحاسنهم، وهم من حُرموا الصدقة.
· تأكيد مناصحة غير الصالح منهم والشفقة عليه والرحمة به، ودعوته إلى نهج آل البيت الطيبيين الطاهرين واستقامتهم على الشريعة المحمدية، وسلامة صدورهم وألسنتهم على الصحابة ومن بعدهم.
وقد كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشد تعظيمًا ومحبةً لآل البيت لاستشعارهم مكانة أولئك من النبي -صلى الله عليه وسلم- وامتثالاً لوصايا النبي –صلى الله عليه وسلم-، وقد أمر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- عام الرمادة أن يستسقي بالناس فسقوا . وكان عمر -رضي الله عنه- يقول: «اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فأسقنا، قال فُيسقون» [42].
قال ابن حجر: ويستفاد من قصة العباس: استحباب الاستشفاع بأهل الخير والصلاح وأهل بيت النبوة [43]، ومنه فضل العباس وفضل عمر بتواضعه للعباس ومعرفته بحقه [44].
ولما دخل عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم- في حاجة له على عمر بن عبد العزيز قال له عمر: إذا كانت لك حاجة فأرسل إليَّ أو اكتب فإني أستحيي من الله أن يراك على بابي [45].
وعن الشعبي: صلى زيد بن ثابت على جنازة أمه، ثم قُرِّبت له بغلته ليركبها، فجاء ابن عباس فأخذ بركابه، فقال زيد: خل عنه يا ابن عم رسول الله، فقال: « هكذا نفعل بالعلماء فقبل زيد يَد ابن عباس ؛ وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا -صلى الله عليه وسلم- » [46].
وإليك أسوق هذه القصة، عن أحمد بن حنبل -رحمه الله-، حين ضُرب في محنته وقُيِّد، وبعد أن أقام الحجة على أحمد بن أبي دؤام أمام الواثق.
« قال الواثق: اقطعوا قيد الشيخ، فلما قُطع، ضَرَبَ بيده إلى القيد ليأخذه ، فجاذبه الحداد عليه. فقال الواثق: لم أخذته؟ قال: لأني نويت أن أُوصي أن يجعل في كفني حتى أخاصم به هذا الظالم غدًا، وبكفى ، فبكى الواثق، وبكينا، ثم سأله الواثق أن يجعله في حِل، فقال: لقد جعلتك في حِل وسعة من أول يوم، إكراماً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لكونك من أهله !! » [47].
وهذا دعيبل الخزاعي يمدح آل البيت فيقول:
مدارسُ آيات خلت من تلاوة ومنزل وحي مقفر العَرصاتِ
وقد كان منهم بالحجاز وأهلها مغاوير نحَارون في السنواتِ
إذا فخروا يوماً أتوا بمحمـدٍ وجبريل والقرآن ذي السوراتِ
ملامك في أهـل النبيّ فإنهم أحبايَ ما عاشوا وأهل ثقاتِ
أحب قصي الرحم من أجل حبكم وأهجر فيكم أسرتي وبناتي
تخيَّرتهم رشداً لأمري إنهم على كل حالٍ خيرة الخيراتِ
فيا رب زدني في يقيني بصيرة وزد حبهم يا رب في حسناتي [48]
وأقول كما قال الأول:
وتعذلني أبناءُ سعد عليهم وما قلت إلا بالذي علمت سعدُ
5- تعظيم السنة والآثار والأدلة من الوحين قولاً وعملاً وعلماً، وهذا ابن مسعود -رضي الله عنه- يقول: « القصد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة » [49]، وقال أبو عثمان الحيري: « من أمر السنة على نفسه قولاً وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه نطق بالبدعة » [50]، وقيل لمالك -رحمه الله-: لِمَ لَمْ تأخذ عن عمرو بن دينار؟ قال: أتيته، فوجدته يأخذون عنه قياماً، فأجللت حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن آخذه قائماً [51].
وقال سهل بن عبد الله: « أصولنا ستة أشياء: التمسك بكتاب الله –تعالى-، والاقتداء بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، وأكل الحلال، وكف الأذى، واجتناب الآثام، والتوبة، وأداء الحقوق » [52].
ومما يُعينُ على تعظيم السنة والأثر ومحبتهما تذكر ما يلي:
كونها تدعو إلى العمل بها: فالعمل طوع المحبة الصادقة، كما قال تعالى: ﴿ قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ﴾ [آل عمران: 31]، ولذا قُسِّمَ المحبُّون إلى أقسام ثلاثة: منهم من يريد من المحبوب، ومنهم من يريد المحبوب، ومنهم من يريد مراد المحبوب، مع إرادته للمحبوب، وهذا أعلى أقسام المحبين [53].
تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمري في القياس شنيع
لـو كان حُبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يُحب مطيـعُ
· كونها شريعة واجبة، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ) [54].
· كونها تشرِّف من انتسب إليها بمجموع الأحاديث الدالة على السنة وعلى الجماعة.
لما انتسبت إليك صرت معظمًا وعلوت قدراً دون من لم ينسب
· كونها الميزان العدل الذي يتميز به المتبع من غيره، وهي القاعدة للعقائد والأخلاق والمعاملات والشريعة، كما أنها الشريعة الوسط كما قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾ [البقرة: 143].
· كونها الحق الذي يبقى إلى يوم القيامة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك) [55].
· كونها الموافقة للفطرة المستقيمة والصالحة لكل زمان ومكان، كما قال تعالى: ﴿ فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ﴾ [الروم: 30].
· إجلال العالمين بالسنة وتقديرهم وتوقيرهم، وخاصة العلماء منهم، فهم الشامة في جبين الأمة، وهم النور الذي يمشي بين الناس، كما هم الأمنة والأمناء على ميراث النبوة.
ويزداد حقهم لكونهم يُحُيون السنن ويجددون ما اندسر من معالم الدين، وكونهم أعلم الناس وأقربهم بالنبي -صلى الله عليه وسلم- قولاً وفعلاً ووصفاً ظاهراً وباطناً [56].
كما أنهم أحبوا أصحابه ووالوهم وأخذوا عنهم الحديث النبوي الشريف علماً وعملاً وفقهاً وسلوكاً، فهم الذين يرفعون شعار القرآن والسنة النبوية والإجماع، فيتمسكون بجماعتهم ويلمون شملها، ويحافظون على ائتلافها، وينضون تحت رايتها بعيدين عن رايات وشعارات الفرق الضالة من أهل الشذوذ والتفرق والأهواء والاختلاف [57].
ولهذا قال سفيان بن عيينة: « لا تجد أحداً من أهل الحديث إلا وفي وجهه نضرة؛ لدعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- » وقال الشافعي -رحمه الله-: « إذا رأيت رجلاً من أصحاب الحديث، فكأني رأيت رجلاً من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، جزاهم الله خيراً ، حفظوا فلهم علينا الفضل لأنهم حفظوا لنا » [58].
ولا ينبغي العدول عن أعلام الإسلام إلى رموز الضلالة في الأدب من الكتاب المعاصرين أو الفلاسفة أو الثوار أو الزعماء هنا أو هناك، بل ينبغي الذبُّ عن علماء الإسلام والالتفاف حولهم وحبهم ونصحهم، وتكثير سوادهم والثقة بهم، وحضور مجالهسم؛ فعندهم الميراث الصحيح ميراث الأنبياء فتأمَّل!!
العلم ميراث النبي كما أتى في النص والعلماءُ هم وُرَّاثهُ
ما خلف المختار غير حديثه فينـا فـذاك متاعـه وأثاثه
7- الإكثارُ من قراءة السيرة النبوية والمطالعة فيها والاستفادة منها وتذكر أحوال الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأقواله وأعماله وجهاده وتكوينه المجتمع الإسلامي من غير أن يحد بقطر سواء أكان مكة أم المدينة أم الطائف أم الحبشة أم اليمن أم نجد أم غيرها من البلاد، ونشره الشريعة من غير أن تخص بوقت أو جنس. بل ينبغي أكثر من ذلك وليس بكثير على المرء أن يجمع غيره معه عند قراءة السيرة سواءً من أهل بيته أو أصحابه أو دروسه ومحاضراته، وينبغي تعليم القاصي والداني تلك السيرة العطرة ففيها الغناء ويها المتعة، وكذلك الإكثار من قراءة سير الصحابة -رضي الله عنهم- فإنها إنما تحكي حياتهم للدين وللرسول الأعظم -صلى الله عليه وسلم- وليحرص المرء على أن يكون له وقفات يومية في قراءة سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وسير الصحابة -رضي الله عنهم- وبذلهم الغالي والنفيس؛ لعل الله أن يقيم في قلبه ما قام في قلوبهم ويكفي شرفاً أنك تحيا حياة القوم.
قال شقيق البلخي: قيل لابن المبارك: إذا أنت صليت، لِمَ لا تجلس معنا؟ قال: أجلس مع الصحابة والتابعين، أنظر في كتبهم وآثارهم، فما أصنع معكم؟ أنتم تغتابون الناس [59].
لنا جلساء مـا نمـلُّ حديثهـم ألبَّاءُ مأمونون غيباً ومشهداً
يفيدوننا من علمهم علم ما مضى وحلماً وتأديباً ورأياً مسدداً
ومن الكتب التي ينبغي المطالعة فيها وقراءتها، السيرة النبوية الصحيحة، لأكرم ضياء العمري، والرحيق المختوم للمباركفوري، ومختصر سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- للشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-، وتهذيب سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لابن هشام، تهذيب عبد السلام هارون... وغيرها كثير لمن أراد المزيد [60]، كما أوصي طلبة العلم بكتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، للقاضي عياض، قراءة، ومطالعة، ومدارسة، ومناقشة.
8- الذبُّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- والتصدي للمغرضين والمنافقين والمنهزمين والمستشرقين والمستغربين الذين يبثُّون سمومهم في وسائل الإعلام المختلفة ووسائل الاتصال المتنوعة إيذاءً للمؤمنين ومحابة لله ولدينه ولأوليائه، وقد انتدب النبي -صلى الله عليه وسلم- من أصحابه من يكفيه المشركين مع أن الله قد حفظه فقال: (من يردهم عنا، وله الجنة) [61].
وقال لأبي قتادة حين كاد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يسقط من الراحلة ثلاث مرات وهو نائم، وكان أبو قتادة يدعَمُه حتى لا يسقط قال له: (حفظك الله بما حفظت نبيه) [62]. وقال لحسان بن ثابت حين كان ينتدب للدفاع عن الرسول الكريم: (اهجهم وجبريل معك) [63]. ومن قول حسان -رضي الله عنه-:
فإن أبي ووالدتي وعرضي لعرض محمد منكم وقاءُ
والدفاع والذب عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وآل بيته، وأصحابه شرف ورفعة ينبغي العمل أجله، كما أنه واجب على الإنسان العارف التحذير من المتطاولين على السنة وأهلها، وكشفهم للناس حتى لا تنفذ شبههم وسمومهم، وتحذير الناس منهم ومن كتاباتهم، والله -عز وجل- مؤيد وحافظ وناصر من نصر الدين والمرسلين، قال تعالى: ﴿ وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 40]، وقال سبحانه: ﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ ﴿51﴾﴾ [غافر: 51].
و « لمَّا تحدث عن الذين ينصرون الله ورسله بالغيب، عقَّب على هذا بإيضاح معنى نصرهم لله ورسله؛ فهو نصر لمنهجه ودعوته، أما الله سبحانه فلا يحتاج منهم إلى نصر إن الله قوي عزيز » [64]. كما أن من لوازم الانتصار للدين، والذود عن حياض الإسلام: الذبُّ عن المسلمين أتباع دينه في كل مكان، من المستضعفين والمجاهدين، والنصرة لهم بالمال والنفس، وبالقلم والسنان، حتى تكتمل فصول النصر والتمكين للمسلمين في هذه الأرض، كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴿105﴾﴾ [الأنبياء: 105].
كما أن من علامات المحبة ومقتضياتها تعظيمه -صلى الله عليه وسلم- حياً وميتاً، وتعظيم أمره في النفوس، واستشعار كلامه وجلاله النبوي، والامتثال مع الذل للأمر والنهي ونصره في القلوب وفي الأعمال، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ﴿8﴾ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴿9﴾﴾ [الفتح: 8، 9].
كما أن من علامة المحبة الغيرة على محارم الله ومحارم رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
ألا بقية من غيرة تذهب زيف الباطل وصولجانه؟! ﴿ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ ﴾ [الرعد: 17].
ومودِّع يوم الفراق بلحظه شرق من العبرات ما يتكلمُ
أسأل الله أن يجعل ما كتبت مما ينفع الناسن ومما خلص فيه لوجهه، وأن ينفع به كاتبه، وقارئه، وأن يجمعنا في مستقر رحمته، مع النبيين والصديقيين والشهداء والصالحين، وحَسُن أولئك رفيقاً... آمين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
[1] سير أعلام النبلاء: 11/ 226.
[2] ذكرها عنه ابن القيم في صحيح الوابل الصيب، تحقيق سليم الهلالي، ص 93.
[3] مدارج السالكين: 3/ 63.
[4] حلية الأولياء: 9/ 373.
[5] البخاري، رقم 6502.
[6] دراسات تربوية في الأحاديث النبوية، الدكتور محمد لقمان الأعظمي، ص 28، 29.
[7] البخاري، رقم 15، ومسلم، رقم 44.
[8] البخاري، رقم 3694.
[9] البخاري، رقم 3589، ومسلم، رقم 2832. واللفظ له.
[10] البخاري، رقم 3231، ومسلم ، رقم 1795.
[11] السيرة النبوية الصحيحة، أكرم ضياء العمري: 1/ 193.
[12] مسلم، رقم 262.
[13] البخاري، رقم 3139، 4024.
[14] انظر الفتح: 7/ 411.
[15] ابن كثير: 2/ 20.
[16] البخاري، رقم 3405، ومسلم، رقم 1062.
[17] البخاري، رقم 1009.
[18] البخاري، رقم 16، ومسلم، رقم 43.
[19] البخاري، رقم 15، ومسلم، رقم 44.
[20] فتح الباري، لابن رجب : 1/ 53.
[21] رواه الترمذي وحسنه، رقم 2587، وأبو نعيم في الحلية: 8/ 277، وقال: غريب ، وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم 1999، وفي الصحيحة برقم 954.
[22]البخاري، رقم 6167، ومسلم، رقم 6239.
[23] صححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 490، وانظر تخريجه فيه.
[24] البخاري، رقم 4344، ومسلم، رقم 1733.
[25] جامع العلوم والحكم: 2/ 393، وانظر تخريجه مفصلاً فيه، وقد حسنه النووي وغيره، وضعفه ابن رجب، وهو صحيح المعنى بلا شك، ولهذا أوردته هنا.
[26] مجموع الفتاوى: 10/ 81.
[27] رواه أبو داود، رقم 4681، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 380.
[28] البخاري، رقم 3821، ومسلم، رقم 2437.
[29] البخاري، رقم 3818، ومسلم، رقم 2437.
[30] فتح الباري: 7/ 175.
[31] البخاري، رقم 3673، ومسلم، رقم 2541.
[32] أي: بطانتي وخاصتي... يريد أنهم موضع سره وأمانته، قال ابن دريد: هذا من كلامه -صلى الله عليه وسلم- الموجز الذي لم يُسبق إليه، فتح الباري: 7/ 153.
[33] البخاري، رقم 3799، ومسلم، رقم 3510.
[34] البخاري، رقم 3801.
[35] فتح الباري لابن حجر: 7/ 154.
[36] البخاري، رقم 3783، ومسلم، رقم 75.
[37] قال -صلى الله عليه وسلم-: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) رواه البخاري من حديث ابن مسعود، رقم 2652.
[38] وهذا الاستثناء منقطع حتى لا يكون ذلك أجراً في مقالة أداء الرسالة، ومعنى الآية: ولكني أذكركم المودة في القربى، وأذكركم قرابتي منكم، قاله البغوي في تفسيره: 7/ 192، وابن كثير، 4/ 114، وابن عاشور في التحرير والتنوير: 12/ 83.
[39] مسلم، رقم 2408، ولا تعني الوصية بهم تقديمهم على سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بل أوصى بالسنة مع القرآن في أحاديث أخرى كثيرة، ليس هذا مقام ذكرها، وهي المقدمة، يتجلى ذلك في قصة أبي بكر -رضي الله عنه- مع فاطمة -رضي الله عنها- في شأن ميراث النبي -صلى الله عليه وسلم-.
[40] البخاري، رقم 3713.
[41] مسلم، رقم 2699.
[42] البخاري، رقم 1010.
[43] وغير خاف أن المقصود الاستشفاع بدعائهم لا بذواتهم.
[44] فتح الباري: 2/ 632، وانظر: مجموع الفتاوي: 1/ 225، 315.
[45] الشفاء: 2/ 608.
[46] الشفاء: 2/ 608.
[47] سير أعلام النبلاء: 11/ 315.
[48] معجم الأدباء: 11/ 103، من قصيدة طويلة.
[49] ذكره ابن الجوزي في تلبيس إبليس مسندا موقوفاً، ص 15.
[50] حلية الأولياء: 10/ 244.
[51] سير أعلام النبلاء: 8/ 67.
[52] حلية الأولياء: 10/ 190، وشذرات الذهب: 2/ 183.
[53] روضة المحبين لابن القيم، ص 273، تحقيق السيد الجميلي.
[54] أبو داود، رقم 4607، والترمذي، رقم 2815، وابن ماجه، رقم 43، 44، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 34.
[55] البخاري، رقم 3116، ومسلم، رقم 1920.
[56] انظر: مجموع الفتاوى، ابن تيمية، 1571.
[57] أهل النسة والجماعة، معالم الانطلاقة الكبرى، محمد عبد الهادي المصري، ص 78.
[58] سير أعلام النبلاء: 10/ 60، وحلية الأولياء: 9/ 109.
[59] سير أعلام النبلاء: 8/ 398.
[60] من الكتب الجديرة بالقراءة كذلك: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، للدكتور مهدي رزق الله، والسيرة النبوية، لمحمد أبو شهة، وفقه السيرة النبوية، لمنير محمد غضبان.
[61] رواه مسلم، رقم 1789.
[62] رواه مسلم، رقم 681.
[63] رواه البخاري، رقم 3213، ومسلم، رقم 2486.
[64] في ظلال القرآن: 6/ 3495.